فصل: كتاب جامع البيوع الأول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة اشترى من رجل طعاما بعينه غائبا عنه:

قال أصبغ سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل اشترى من رجل طعاما بعينه غائبا عنه، ثم إذا الطعام قد قدم به وكيل البائع بعد الصفقة، كان قد حمله قبل الصفقة أو بعدها ولا علم له؛ قال البيع للبائع لازم، فإن شاء أن يدفعه إليه ههنا، دفعه إن رضي المشتري أن يأخذه منه ههنا، وإلا فعليه أن يرده له، أو يدفع مكانه إليه شراءه هناك وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الطعام قد وجب للمبتاع بالشراء، فإذا قدم به البائع أو وكيله، كان كمن تعدى على طعام رجل فحمله من بلد إلى بلد؛ لأن الخطأ في هذا والعمد سواء، فيكون على المتعدي مثل الطعام الذي حمله في الموضع الذي حمله منه، إلا أن يتراضيا على أخذه أو أخذ سواه في البلد الذي حمله إليه، فيكون ذلك جائزا، وبالله التوفيق.

.مسألة تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها:

قال أصبغ سألت ابن القاسم عن المرأة تضع عن زوجها مهرها على أن يحجها، قال هذا حرام لا يحل؛ لأنه الدين بالدين، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قالا: إنه فسخ الدين في الدين؛ لأنها فسخت ما لها عليه من المهر في شيء لم تنتجزه من إحجاجه إياها من ماله إما بشراء، وإما بالكراء، والقيام بكل ما يحتاج إليه في ذلك ذاهبة وراجعة؛ وقد وقع في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الصدقات والهبات مسألة معارضة لهذه في الظاهر، كان الشيوخ يحملونها على أنها خلاف لها؛ ومثل هذا لا يصح أن يختلف فيه، فالواجب أن يتأول على ما يوافق الأصول؛ ونصها سئل ابن القاسم عن رجل سأل من امرأته أن تضع عنه مهرها، فقالت له إن حملتني إلى أمي فهو عليك صدقة؛ فتصدقت به عليه أن يحملها إلى أختها وكانت مريضة، ثم بدا له أن يحملها بعد أن وضعت عنه الصداق، فخرجت هي من غير إذنه فسارت إلى أختها؛ هل ترى الصداق له؟ فقال: إن كانت خرجت مبادرة إليها لتقطع بذلك ما جعلت لزوجها فلا شيء عليه، وإن كان بدا له في حملانها وأبى أن يسير بها وعلم ذلك رجعت عليه بما وضعت عنه، فنقول إن المعنى في هذه المسألة أنه إما وضعت عنه الصداق على أن يخرج معها ولا تمضي مفردة دونه، لا على أن يحملها من ماله، أو ينفق عليها في شيء من سفرها سوى النفقة التي تجب لها في مقامها؛ فإذا حملت المسألة على هذا صحت وكانت موافقة للأصول، ولعلها لم تكن ذا محرم يخرج معها، فكانت إنما بذلت له الصداق على رفع الحرج عنها بخروجه معها لا على أن ينفق عليها في ذلك، إذ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها». وقد مضى في سماع عيسى من كتاب الحج القول في وضعها الصداق عنه على أن يأذن لها في الخروج إلى الحج، وبالله التوفيق.

.مسألة باع عشرة أمداد قمح بدينار إلى شهر:

قال أصبغ سئل ابن القاسم وأنا أسمع عن رجل باع عشرة أمداد قمح بدينار إلى شهر، ثم اشترى البائع من مشتري الطعام منه بدينار إلى أجل عشرين مدا بدينار نقدا، فأعطاه عشرة وقال له اقبض العشرة التي لي قبلك بالدينار إلى أجل أقضيكها، قال لا يصلح هذا؛ لأنه يعطيه دنانير نقدا ويعطيه دينارا إلى أجل وقد أعطى آخذ الدينار نقدا معطيه الدينار عشرة أرادب، فكأنه أسلفه دينارا على أن أعطاه عشرة أرادب؛ قال أصبغ الجواب صحيح والتفسير مظلم، وكراهيته وفساده الزيادة في السلف محضا، والذهب بالذهب متفاضلا، والعشرة الأرادب الأول لغو.
قال محمد بن رشد: هذا تحامل من أصبغ على ابن القاسم، بل جوابه صحيح، وتفسيره بين واضح أبين من تفسير أصبغ؛ فتفسير أصبغ هو المظلم؛ لأنه قال: إنه الزيادة في السلف والذهب بالذهب متفاضلا والعشرة الأرادب الأول لغو؛ فأجمل القول، إذ لم يبين ما هي الزيادة التي في السلف، ولا كيف يتصور التفاضل في الذهب في ذلك؛ وقد بين ذلك كله ابن القاسم بيانا واضحا فقال لأنه يعطيه دينارا نقدا ويعطيه دينارا إلى أجل؛ يقول لأن المبتاع الثاني وهو البائع الأول يعطي البائع الثاني وهو المبتاع الأول دينارا نقدا ثمن العشرين مدا الذي ابتاع منه، ثم يأخذ منه عند شهر دينارا ثمن العشرة الأمداد التي باع منه إلى أجل؛ فكأنه أسلفه دينارا إلى أجل، وأخذ منه عشرة أمداد نقدا؛ لأنه باع منه عشرة أمداد ثم اشترى منه عشرين مدا، فدفع إليه عشرة أمداد؛ لأنه قاصه بالعشرة الأخرى على ما ذكر، وذلك نص قول ابن القاسم، وقد أعطى آخذ الدينار نقدا معطيه الدينار عشرة أرادب، فبين أن الأمر آل بينهما إلى أن أسلف البائع الأول للمبتاع الأول دينارا إلى شهر، على أن يعطيه عشرة أمداد قمح بيانا واضحا؛ وإذا كان قد أسلفه دينارا إلى أجلى على أن يعطيه عشرة أرادب، فقد صار ذلك أيضا ذهبا وعرضا بذهب إلى أجل، وهو التفاضل في الذهب الذي قاله أصبغ؛ فقول ابن القاسم على كل حال أبين، وهذه المسألة من أحد فروع مسائل رسم حبل حبلة التي فرعناها إلى أربع وخمسين مسألة، وبينا أصل ما يعرف به الجائز منها وغير الجائز.

.مسألة باع حديدا جزافا بنقد:

قال أصبغ سمعت ابن القاسم وسئل عن رجل باع حديدا جزافا بنقد، ثم أراد أن يشترى منه وزنا يكون ثلث ذلك في العدد أو أدنى بنقد أو إلى أجل؛ فقال: إن كان لم ينتقد ثمنه حتى اشتراه منه وتقاصه بما عليه، فلا يجوز له أن يشتري منه إلا ما كان يجوز له أن يستثنيه الثلث فأدنى، وهذا يجري في الطعام وغيره؛ وإن كان انتقد وتفرقا، ثم اشترى منه بعد ذلك، فلا بأس به على حال، إلا أن يكون بائعه من أهل العينة فلا يعجبني.
قال محمد بن رشد: أكثر من الثلث لا يجوز أن يشتريه منه على حال، إذ لا يجوز له أن يستثنيه أقل من الثلث، قال إنه يجوز له أن يشتريه منه إن كان لم ينتقد الثمن مقاصة، والمعروف من قولهم الذي يأتي على أصولهم أن ذلك يجوز نقدا ومقاصة إذا لم يكونا من أهل العينة؛ لأن بيوع النقد لا يتهم فيها إلا أهل العينة، فإن كانا من أهل العينة، لم يجز له أن يشتري منه أقل من الثلث إلا مقاصة؛ وأما إن كان انتقد وتفرقا، فقال إنه لا يتهم في ذلك إلا أهل العينة، والصواب أنه لا يتهم في ذلك أهل العينة ولا غيرهم؛ إذ قد تناجزا في البيع الأول ولم يبق بينهما فيه عمل ولا موضع للتهمة وقد تفرقا بعد التقابض؛ فعلى قوله لا ترتفع التهمة عنهما إذا كانا من أهل العينة، إلا أن يطول الأمر بعد افتراقهما الأيام، كمسألة الصرف من المدونة في الذي باع من رجل دنانير بدراهم، ثم أراد أن يشتري منه بها دنانير، فلم يجز ذلك في المجلس ولا بعد اليوم واليومين؛ وهو بعيد في هذه المسألة، وإنما يحسن أن يتهم أهل العينة في هذا إذا كان قد نقده ولم يتفرقا، وقد مضى القول على هذه المسألة في رسم مرض من سماع ابن القاسم مستوفى.

.مسألة اشترى سلعة غائبة بعينها وهي ببلد على أن يوفاها بموضع آخر:

قال أصبغ سألت ابن القاسم عمن اشترى سلعة غائبة بعينها وهي ببلد على أن يوفاها بموضع آخر، أو بموضعه شك أصبغ. قال لا خير فيه للضمان.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال أن ذلك لا يجوز؛ لأن بعض الثمن قد وقع للضمان، وذلك حرام لا يحل بإجماع.

.مسألة اشترى طعاما بعينه على أن يحمل له إلى بلد:

قال أصبغ وسمعته يسأل فيمن اشترى طعاما بعينه على أن يحمل له إلى بلد، فقال إن كان يكتاله هناك حيث هو ولا يكون على البائع إلا الحملان، فلا بأس به؛ وإن كان لا يكتاله إلا حيث يحمل، فلا خير فيه؛ لأن فيه ضمانا، اشترى شيئا بعينه على أن يعطاه بموضع آخر؛ فهذا مثل مسألة السلعة، وبعض هذا من بعض، يشبه بعضه بعضا، وقاله أصبغ وهما سواء.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في المسألة التي فوقها، إذ لا فرق في هذا بين الطعام المعين وبين السلعة كما قال أصبغ.

.مسألة اشترى جارية غائبة بالشام على أنها من البائع:

وسئل عمن اشترى جارية غائبة بالشام على أنها من البائع حتى يوفيه إياها بمصر، قال لا خير فيه، لما فيه من الضمان والتغرير؛ ولو كان يقبضها في مكانها بالشام، لم يكن بذلك بأس، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: وهذا أيضا مثل ما تقدم، إذ لا فرق بين السلعة والطعام والجارية في أن اشتراط ضمان ذلك في البيع لا يجوز.

.مسألة سلف في عشرة أرطال لحم فأعطاه جزرة فيها خمسون:

قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول فيمن سلف في عشرة أرطال لحم، فأعطاه جزرة فيها خمسون؛ قال إن كان فيها صفته، أو قال على صفته، فلا بأس به؛ إنما البقية حينئذ إفضال منه عليه بمنزلة ما لو كان له عليه مائة إردب قمح سلفه فيها فأعطاه مائتين، وقاله أصبغ إذا كانت جميعا أو إحداهما كلها على الصفة أو أرفع؛ وهذا في الجزرة أن تكون مذبوحة مسلوخة، فأما حية قائمة فلا يحل الحي بالميت؛ وكذلك إذا حل اللحم له أيضا ولم يكن قبل محله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة في المعنى، وقول أصبغ تفسير لقول ابن القاسم وصحيح؛ وإنما اشترط في الجزرة أن تكون مسلوخة؛ لأنها إذا لم تكن مسلوخة لا يدري لعل لحمها أدنى من الذي له، فيكون اللحم باللحم متفاضلا؛ لأنه أخذ أدنى صفة وأكثر وزنا وجلدا زائدا، فيدخله التفاضل فيما لا يجوز فيه التفاضل، وبيع الطعام قبل أن يستوفى؛ ولو تحقق أن لحمها أطيب من أرطاله لجاز، وبالله التوفيق.

.مسألة يسلف في قراطيس طولها عشرون ذراعا:

ومن كتاب البيوع العاشر:
قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول فيمن يسلف في قراطيس طولها عشرون ذراعا، فلما حل الأجل قال المشتري إنما لي بذارعي، وقال البائع بل بذراعي ولم يكونا سميا؛ قال لا ينظر إلى قول هذا ولا هذا، وأرى أن يحمل على ذراع وسط؛ قال ونزلت فأفتينا فيها بذلك، قال أصبغ ولم ير هذا فسخا، وهذا أحسن عندي، والقياس الفسخ.
قال محمد بن رشد: في قوله ولم يكونا سميا، دليل على أنهما لو اتفقا على أن السلم وقع بينهما على ذراع أحدهما بعينه لجاز؛ وهو مذهبه في المدونة؛ لأنه أجاز السلم على ذراع رجل بعينه؛ ويؤخذ قياسه، فيكون عندهم لئلا يموت؛ خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من أنه لا يجوز السلم على ذراع رجل بعينه، قال ويكفي أن يسميا الذراع فقط؛ فإن اختلفا فيه عند القبض كان له الوسط من أذرع الناس؛ هذا إذا لم يكن القاضي قد جعل ذراعا للناس يتبايعون عليه، فإن كان قد نصب ذراعا للناس يتبايعون عليه، وجب الحكم به والرجوع إليه عند الإبهام.
وتحصيل القول في هذه المسألة عندي أن القاضي إذا كان قد نصب للناس ذراعا يتبايعون عليه، لم يجز اشتراط ذراع رجل بعينه، كما لا يجوز ترك المكيال المعروف الجاري إلى مكيال مجهول؛ وإن لم يكن للناس ذراع منصوب، فهذا موضع الاختلاف، قيل إن الذراع الوسط كالذراع المنصوب فلا يجوز السلم على ذراع رجل بعينه، وإنما يجوز على الذراع الوسط، أو على ذراع ولم يسميا شيئا فيحكم بينهما بذراع وسط وهذا الذي ذهب إليه ابن حبيب. وقيل إنه لا يكون الذراع الوسط كالذراع المنصوب، ويجوز السلم على ذراع رجل بعينه، وعلى ذراع وسط، كما يجوز شراء الطعام على مكيال مجهول في القرى من الأعراب حيث ليس لهم ميكال يتبايعون عليه، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، ودليل قوله في هذه الرواية، وإن لم يسميا شيئا؛ حملا على ذراع وسط؛ وقول أصبغ استحسان، والقياس الفسخ، ولو اختلفا على هذا القول فقال المسلم وقع السلم على ذراعي، وقال المسلم إليه بل على ذراعي، كان الحكم في ذلك على حكم اختلافهما في عدد المسلم فيه؛ وأما على القول الآخر فيفسخ السلم بينهما، لاتفاقهما على أنه وقع فاسدا، ولو ادعى أحدهما أن السلم وقع على ذراع وسط، لكان القول قوله لأنه يدعي الصحة دون صاحبه؛ وكذلك لو اختلفا حيث ثم ذراع منصوب فادعى أحدهما الذراع المنصوب.

.مسألة ابتاع طعاما بعينه ونقد بعض ثمنه إلى أن يأتيه بالبقية:

وسئل عمن ابتاع طعاما بعينه ونقد بعض ثمنه إلى أن يأتيه بالبقية، ثم بدا له فأراد أن يكتال بقدر ما نقد ويستقيل من البقية، قال لا بأس بذلك؛ فإن كان قد نقد الثمن كله، فلا يصلح أن يأخذ بعضا ويستقيل من بعض، إلا أن يكونا لم يتفرقا ولم يغيبا على الدنانير.
قال محمد بن رشد: الصحيح في هذه المسألة على أصولهم أن الإقالة من البعض جائزة وإن نقده الثمن كله، إذ ليس في نفس الإقالة فساد؛ وإنما يوجد الفساد في ذلك بمجموع البيع والإقالة إذا اتهما في ذلك، فوجب أن يجوز إذا لم يكونا من أهل العينة؛ لأن بيوع النقد لا يتهم فيها إلا أهل العينة، وقد مضى له في الرسم الذي قبل هذا مثل هذا من اتهام غير أهل العينة في بيوع النقد وقد نبهنا عليه هناك.

.مسألة السلف في الزفيزفا:

وسمعته يقول في الزفيزفا أنه لا بأس به بواحد أخضر كله، أو يابس كله، ولا خير في رطبه بيابسه على حال، والعين بقر كذلك؛ قال أصبغ لأن المزابنة تدخله والخطر، ولا ينكر في هذا جواز التفاضل فيه أخضر كله؛ وقد يجوز الرطب والعنب واحد بواحد رطبا كله، ولا يجوز رطبه بيابسه على حال؛ لأن المزابنة تدخله، وكذلك هذا؛ والحديث في النهي على الرطب باليابس فيهم، فهو يقع على الرطب باليابس في كل شيء.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في رسم يدير ماله من سماع عيسى مستوفى، فلا معنى لإعادته مرة أخرى.

.مسألة قوم يقتسمون ماءهم بالقلد فيأخذ الرجل على قدر حقه:

وسئل عن قوم يقتسمون ماءهم بالقلد وهو قدر نحاس، وقد عرفوا كم يصير بلدهم منه، فيأخذ الرجل على قدر حقه فيتسلف الرجل من صاحبه في الشتاء أقلادا، ثم يغفلون حتى تدخل الصيف فيلزمه، فيأبى أن يعطيه إلا في الشتاء أو في وقته الذي أخذه، والماء عندنا في الشتاء أرخص، وفي الصيف أغلى؛ قال أصبغ عليه أن يعطيه في أي وقت طلبه بعد أن يكون السلف حالا لا وقت له، ولم يكن مؤجلا لم يحل أجله؛ ولا ينظر في هذا إلى شتاء ولا صيف، ولا حين إعطائه ولا حين قبضه، ولا غير ذلك، إلا متى ما طلبه، أو أراد المسلف قضاءه قبل أن يطلبه.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا خلاف مذهب ابن القاسم، والذي يأتي في هذه المسألة على مذهب ابن القاسم، أنه ليس له أن يأخذ سلفه منه إلا في الفصل الذي أسلفه إياه فيه؛ لأن سقي الصيف لا يشبه سقي الشتاء، والمماثلة في الماء للسقي، إنما تكون بتساوي الأوقات والفصول؛ والذي يدل على أن هذا مذهبه، قوله في سماع أبي زيد من كتاب القسمة في الشريكين في الماء لأحدهما السقي بالليل، وللآخر السقي بالنهار، فيتعدى الذي له السقي بالنهار على الذي له السقي بالليل فيسقي به؛ أنه إن لم يكن له سقي بالليل كانت عليه القيمة؛ لأن سقي النهار لا يشبه سقي الليل؛ ووجه قول أصبغ أن الواجب في السلف رد مثله من غير اعتبار قيمته يوم السلف ولا يوم الرد، ومعنى ذلك إذا كان الماء قدره واحد في الوقت الذي استسلفه، وفى الوقت الذي يرده؛ لأن العادة في المياه أنها تقل في الصيف وتكثر في الشتاء، فليس له إذا استلف الأقلاد في الصيف أن يأخذها في الشتاء إذا كان المياه في الشتاء أكثر؛ لأنه يأخذ فيها من الماء أضعاف ما أسلفه، وإذا لم يكن له أن يأخذها في الشتاء، لم يكن للذي عليه السلف أن يجبره على أخذها؛ إذ ليس له أن يلزمه معروفا، ولا للمسلف إذا أسلف للأقلاد في الشتاء، أن يردها في الصيف إذا كان الماء في الصيف أقل؛ وإذا لم يكن له أن يردها في الصيف، لم يكن للذي له السلف أن يأخذها؛ لأنه إن قال إنه تارك لبعض حقه، فليس له أن يلزم المسلف قبول معروفه؛ ويعلم أنه إنما رضي أن يأخذه في الصيف، وهو أقل من أجل أنه أغلى؛ وهذا وجه المبايعة التي لا تجوز إلا برضى المتبايعين. فالواجب على مذهبه إذا طلب صاحب السلف سلفه من الأقلاد في غير الفصل الذي قبضه فيه، والماء ليس على ما كان عليه، إلا أن يكون ذلك له، ويلزم الانتظار إلى الفصل الذي أسلفه فيه؛ كمن أسلف فيما له إبان فانقضى الإبان قبل أن يأخذ سلفه، ولا يدخل في هذه الاختلاف الذي في تلك؛ لأن هذا قرض وذلك بيع؛ وفي صفة القلد الذي يقسم به الماء بين الإشراك اختلاف؛ قيل إنه أن يؤخذ قدر فيثقب في أسفله، ثم يصب فيه الماء من وقت إلى مثل ذلك الوقت من يوم آخر، فما اجتمع مما خرج من ذلك الثقب من الماء اقتسمه الورثة أو الأشراك فيما بينهم على قدر حظوظهم، وعمل واحد منهم قدرا يحمل مقدار حظه من ذلك الماء، ويثقب في أسفله بالمثقب الذي ثقب به القدر الأول؛ ويسقون الأول فالأول على ما يتفقون عليه، أو يخرجه الاقتراع لهم؛ فإذا وصل الماء في أرض الذي يأتي وقت سقيه؛ ملأ قدره من الماء وفتح الثقب، فلا يزال يسقي حتى ينفذ الماء، ثم الذي يليه كذلك إلى آخرهم؛ وقيل بل يقسم الماء على سهم أقلهم نصيبا، فإن كان لأحدهم السدس وللثاني السدسان، وللثالث الثلاثة الأسداس؛ ثقب في جنب القدر الأول حيث ينتهي السدس والماء، وحيث ينتهي السدسان، وحيث تنتهي الثلاثة الأسداس؛ فإذا سقى صاحب الثلاثة الأسداس وضع الثلاثة الأسداس في القدر، وفتح الثقب الأول، فإذا جرى السدس من الماء، فتح الثقب الثاني؛ فإذا جرى السدس الثاني من الماء، فتح الثقب الذي في أسفل القدر ويسقي حتى لا يبقى في القدر شيء؛ ويفعل الذي له السدسان مثل ذلك، وكذلك الذي له السدس يسقي حتى يجري السدس من الماء من الثقب الذي في أسفل القدر، وهذا أعدل من القول الأول؛ لأن صاحب النصيب الكبير يغتبن على القول الأول؛ لأن كلما كثر الماء في القلد، كان أسرع لخروجه من الثقب.

.مسألة بيع دكار التين بالتين يدا بيد وإلى أجل:

قال أصبغ لا بأس ببيع دكار التين بالتين يدا بيد وإلى أجل، وكيف ما كان متفاضلا أو غيره، وهو مثل النوى بالتمر.
قال محمد بن رشد: أما قوله في دكار التين بالتين أنه لا بأس به بالتين مثلا بمثل، ومتفاضلا يدا بيد، وإلى أجل؛ فصحيح على ما قال؛ لأنه لا يؤكل بحال، فحكمه حكم العروض باتفاق؛ لا يدخل فيه من الاختلاف ما يدخل في التمر بالنوى؛ لأن قول مالك اختلف فيه من أجل ما في التمر من النوى، فمرة أجازه، ومرة كرهه، ومرة أجازه يدا بيد، وكرهه إلى أجل، فقوله إنه مثل النوى بالتمر- يريد عنده على مذهبه في إجازة ذلك يدا بيد، وإلى أجل- وبالله التوفيق.

.مسألة باع ثوبين بعشرة أرادب قمح إلى أجل:

من سماع أبي زيد ابن أبي الغمر من عبد الرحمن بن القاسم. قال أبو زيد سئل ابن القاسم عن رجل باع ثوبين بعشرة أرادب قمح إلى أجل، فلما حل الأجل، قال أقلني في أحد ثوبيك وخذ مني خمسة أرادب؛ قال لا بأس به إذا كان الثوبان معتدلين، فإذا كان أحدهما أرفع من الآخر، لم يصلح أن يقيله من أحداهما.
قال محمد بن رشد: لسحنون في المجموعة أنه لا يجوز ويدخله بيع الطعام قبل أن يستوفى؛ إذ قد يغلط في التقديم فيكون قد أقال من الطعام بأقل مما اشتراه به أو أكثر؛ كما لا يجوز لهذه العلة إذا اشترى ثوبين مستويين أن يبيع أحدهما مرابحة بنصف الثمن حتى يبين، ووجه قول ابن القاسم، أن اعتدال الثوبين مما يدرك معرفته، فجاز أن يقيل من أحدهما بنصف الطعام إذا كانا مستويين؛ فعلى هذا يجوز إذا اشترى ثوبين مستويين صفقة واحدة أن يبيع أحدهما مرابحة بنصف الثمن ولا يبين، كما لو أسلم فيها، خلاف قوله في المدونة إن ذلك لا يجوز، بخلاف إذا أسلم فيها؛ وقد قيل إنه إنما لم يجز بيع أحدهما مرابحة دون أن يبين، من أجل أنه قد يزاد في ثمن الجملة؛ ذهب إلى هذا ابن عبدوس؛ فعلى هذا لا يجوز أيضا إذا سلم في ثوبين أن يبيع أحدهما مرابحة دون أن يبين، وهو قول سحنون.

.مسألة باع خمسة أرادب قمح بدينار إلى شهر:

وقال ابن القاسم في رجل باع خمسة أرادب قمح بدينار إلى شهر، فقال المبتاع للبائع قبل الأجل خذ مني عشرة أرادب من صفة قمحك، وامح عني الدين، قال لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وهي مسألة رديئة خارجة عن الأصول؛ لأن مآل أمرهما إلى أن أسلم البائع إلى المبتاع خمسة أرادب في عشرة إلى أجل.

.مسألة كل زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها شيء يؤكل:

قال وكل زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها شيء يؤكل، فإنها تباع قبل أن يستوفى؛ ويباع منها اثنان بواحد، ويباع بعضها ببعض إلى أجل؛ وكل زريعة تؤكل ويستخرج من حبها طعام يؤكل، فإنه لا يباع حتى يستوفى، ولا يباع منه اثنان بواحد.
قال محمد بن رشد: كذا وقع في الرواية كل: زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها شيء يؤكل، فإنها تباع قبل أن يستوفى، ويباع منها اثنان بواحد، ويباع بعضها ببعض إلى أجل، وكل زريعة تؤكل ويستخرج من حبها طعام يؤكل، فإنها لا تباع حتى يستوفى، ولا يباع منها اثنان بواحد، والصواب فيها كل زريعة لا تؤكل ولا يستخرج من حبها شيء يؤكل؛ لأن ما كان من الزراريع التي يستخرج منها الزيت كزريعة الفجل، وزريعة الكتان، فإنها من الطعام لا تباع حتى تستوفى، ولا يباع منها اثنان بواحد، كذا قال في المدونة، ومعنى ذلك في البلد الذي تتخذ فيه لذلك، فتأويل قوله في الرواية إذا صحت ويستخرج من حبها شيء يؤكل، أي بأن يزرع فينبت منها ما يؤكل كزريعة البصل والكراث والبطيخ وشبه ذلك. ومعنى قوله لا تؤكل أي لا تؤكل تقوتا ولا تفكها؛ لأن أكلها على سبيل التداوي كالحرق وشبهه، لا يراعى. وقوله ويباع بعضها ببعض إلى أجل، يريد من صنفين مختلفين، وقد حمل بعض الناس الرواية على ظاهرها في أن ما كان من الزراريع، يؤكل فليس من الطعام وإن كان يخرج منه الزيت، خلاف ما في المدونة. وأما قوله وكل زريعة تؤكل ويستخرج من حبها طعام يؤكل، فالمعنى فيه وكل زريعة تؤكل أو يستخرج من حبها طعام يؤكل؛ لأن الزريعة إذا كانت تؤكل فهي من الطعام وإن لم يخرج منها طعام؛ ولا اختلاف في ذلك، كالكمون والكروياء، وشبه ذلك؛ وإذا كان يخرج منها طعام كزريعة الفجل الذي يخرج منه الزيت وشبه ذلك، فهو من الطعام؛ وإن لم يؤكل إلا على سبيل التداوي على ما وصفناه مما حمل عليه بعض الناس قوله: كل زريعة لا تؤكل ويستخرج من حبها شيء يؤكل وهو بعيد، وقد اختلف في الحلبة، فقيل إنها من الطعام لا تباع قبل أن تستوفى، وهو قول ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع. وقيل إنها ليست من الأطعمة وهي من الأدوية فتباع قبل أن تستوفى، ويباع منها اثنان بواحد يدا بيد، وتباع بالقمح إلى أجل، وهو قول مالك في رواية ابن نافع عنه؛ قال ابن نافع قيل لي إنها باليمن طعام فلا تباع بالقمح إلى أجل حيث هي طعام. وقال أصبغ للخضراء منها حكم الأطعمة ولليابسة حكم الأدوية؛ وحكم ابن دينار في المدونة للزرايع التي لا تؤكل ولا فيها طعام مثل زريعة القثاء والبطيخ وشبه ذلك، بحكم ما لا يدخر من الفواكه، يجوز التفاضل في الصنف الواحد منها يدا بيد، ولا يجوز في شيء من ذلك الأجل، ولا بيعه قبل استيفائه.

.مسألة زيت الفجل بزيت الزيتون متفاضلا:

قال مالك لا بأس بزيت الفجل بزيت الزيتون متفاضلا يدا بيد.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، بخلاف الأخلال، والأنبذة في ذلك، تلك لا يراعي فيها اختلاف أصولها؛ وقد اختلف في الأخباز حسبما مضى القول فيه في أول سماع يحيى، وبالله التوفيق.
تم السلم الأول والثاني والآجال بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما عونك يا الله.

.كتاب جامع البيوع الأول:

.القصيل الذي يشتريه الرجل فيصير بعضه حبا:

من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: قال عبد الرحمن بن القاسم في القصيل الذي يشتريه الرجل فيصير بعضه حبا؟ قال: يعدل بقدر الفدادين ويقاس، فإن كان الذي حبب منه الثلث أو الثلثان رجع على حساب ذلك، وليس في ذلك قيمة، وإنما يقدر بالقياس والتحري، وليست فيه قيمة. قلت إن بعضه يكون أجود من بعض؟ قال: يقدر على ذلك، يقال كم هذا الذي يجب من الذي أكل إن كان الثلث أو الثلثان على قدر جودته ورداءته؟ قال والبلح أيضا كذلك على التقدير إذا أزهى بعضه.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على معنى ما في المدونة وغيرها من أن الرجل إذا اشترى القصيل على أن يقصله فلم يقصله حتى حبب، أن البيع ينتقض فيه، كما لو اشتراه على أن يتركه حتى يحبب؛ لأن البيع إذا كان ينتقض في جميعه إذا حبب، أن ينتقض فيما حبب منه إذا حبب بعضه، وسواء غلبه الحب فيه دون توان، أو توانى في قطعه حتى حبب قصدا منه لنقض البيع لاستغلائه إياه، وما أشبه ذلك؛ ولو توانى في قطعه فرافعه البائع إلى السلطان، فقضى عليه بتعجيل قطعه قبل أن يحبب فلم يفعل حتى حبب، أو حبب في خلال الخصام؛ لوجب أن ينتقض البيع فيه أيضا. قال ذلك أصبغ، ورواه عن ابن القاسم؛ وقوله: إذا حبب بعضه أنه يعدل بقدر الفدادين ويقاس، وليس فيه قيمة؛ يريد ليس فيه قيمة تختلف باختلاف الأوقات، كالرأس مع الخلفة إذا اشتراه وشرط خلفته، فحصد الأصل وترك الخلفة حتى حبب؛ أن البيع ينتقض فيها بقيمتها من قيمة الأصل، يقال كم قيمة القصيل يوم وقع البيع فيه دون خلفة، وكم قيمة حينئذ باشتراط خلفته؛ فإن كانت قيمة القصيل دون خلفته عشرة، وقيمته باشتراط خلفته خمسة عشر، علم أن الخلفة وقعت في الثلث، فيرجع المبتاع على البائع بثلث الثمن، وتكون الخلفة التي حببت له؛ لأنتقاض البيع فيها دون الأصل؛ وأما الأصل إذا حبب بعضه، فما حبب منه، فينتقض البيع فيه بمقداره من الثمن نصفه بنصف الثمن، وثلثه بثلث الثمن، وما كان من الأجزاء على هذا، ويعرف قدر ما حبب منه مما لم يحبب بالقياس والكيل، يكال الفدان ويقاس، فيعلم ما بيع ما حبب منه مما لم يحبب، فيرجع المبتاع بقدر ذلك من الثمن؛ وهذا إذا كان القصيل معتدلا مستويا في الطيب واللفة. وأما إن كان بعضه أطيب وألف من بعض، فلابد فيه من القيمة على قدر جودته ورداءته على ما قال؛ لأن ذلك يكون كالأصناف، لو اشترى قصيل قمح وشعير وقرط صفقة واحدة، فحبب بعض تلك الأصناف، انتقض البيع فيه بما ينوبه من الثمن على القيمة، والقيمة في ذلك يوم وقعت الصفقة، لا يوم جز منه ما جز، ولا يوم حبب منه ما حبب؛ وكذلك قال في الجوائح من المدونة إن القصيل إذا اشترى جزة واحدة فنصفه بنصف الثمن، ولا قيمة في ذلك؛ بخلاف ما يكون من المقاثئ وشبهها بطونا، وما يجني من الفواكه شيئا بعد شيء، ولا يمكن حبس الأول منه على الآخر. وقوله والبلح أيضا كذلك على التقديم إذا أزهى بعضه، يريد أن البلح إذا اشتراه على أن يقطعه فلم يقطعه حتى أزهى بعضه، أن البيع ينتقض فيما أزهى منه نصفه بنصف الثمن، أو ثلثه بثلث دون قيمة، وذلك إذا كان صنفا واحدا مستويا في الطيب، فإن اختلفت أصنافه، أو اختلف الصنف الواحد منه في الطيب؛ لم يكن في ذلك بد من القيمة كالقصيل سواء، ولا يجوز شراء البلح قبل أن يزهى إلا بشرط القطع؛ فإن وقع البيع مسكوتا عنه فسخ، إلا أن يقطعه المشتري قبل أن يعثر عليه فلا يفسخ؛ لأنه يتبين بقطعه أنه إنما اشتراه ليقطعه؛ على هذا يحمل ما وقع في البيوع الفاسدة، وبيع العرايا من المدونة، لا على أنه اختلاف من القول على ما ذهب إليه بعض أهل النظر، وذلك بخلاف القصيل؛ لأنه يجوز بيعه وإن وقع مسكوتا عنه لم يشترط قطعه قبل أن يحبب، فرق بين ذلك العرف في شراء القصيل، على أن يقطع والثمرة على أن يبقى، فيحمل كل واحد منهما في السكوت على ما جرى عليه عرف الناس فيه.